إلى روح أمي – رحمها الله – في ذكرى رحيلها ..
لطفولتي ذاكرة الشمس ، والظل ، والمطر ، والأزهار ، والحقول ، وتفتّح الصباح ، واستيقاظ العصافير ، ذاكرتي محملة بقهوة أمي وريحانها ، محملة بالقرية أهلها ، ومزارعها ، وثغاء أغنامها ، وهديل حمامها ..
حين ألامس ذكريات الطفولة ، وأفتح جرار شذاها ؛ أذهل ، وتصيبني سكرة ، لا أفيق منها إلا مضمخا بالطيوب .
مازلت أربّي الحمام ، وأمزج له السكر مع الماء ، وأتودد إليه ، وأربي فيه ذلك الطفل الذي لا أريد أن يكبر ، وأعيذه من إجحاف المعرفة ، وقسوة الحقيقة ، ولإن تحط حمامة على يدي ، أحب إليّ من كل متع الأطفال ولعبهم .
ماتزال أمي توقظني كل صباح ، رغم رحيلها المر ، أسمع صوت المهراس وهي تعد لنا قهوة الصباح ، وأشم رائحة خبزها ، هي لم تمت إلا في الأوراق الرسمية ، إنها معي الآن تملؤني عطرا ، وتحمّلني أمانة الريحان الذابل ، وأحواض البرك المنسية .
ليست حمامة هذه الواقفة على غصن الصباح ، إنها فاجعة الهديل التي تنهمر :
” ملاكُ الشُّرفَة “
أُمِّي
وينهمرُ البُكا .. يا أمِّي
لا تترُكي قلبي لوحشِ الهمِّ
كنتِ الأمانَ لهُ
فلِمْ ألقيتِهِ في اليمِّ
والأهوالُ ملءُ اليمِّ
أمِّي
وأعلمُ أنَّ روحَكِ لمْ تَزَلْ حولي
ولكنْ لا سبيلَ لضمِّ
هذي حمامتُكِ التي أرسلتِها
رَفَّتْ على عينيَّ
تحرُسُ حُلمِي
خضراءُ
ليستْ كالحَمامِ
جناحُهَا ريحانةٌ
تُسقَى بماءِ الغيمِ
لا قهوةٌ
في الفجرِ يعبِقُ هالُها
فالدلةُ ( الرسلانُ )
بنتُ اليُتْمِ
..
أمِّي
على حافاتِ هذا المنحنَى
كانتْ مَواسمُ شملِنا الملتَمِّ
في حِجْرِكِ الميمونِ
كان مَلاذُنا
مِن وَحشةِ الأحلامِ
عِندَ النومِ
لِلبُنِّ في ( المِهراسِ )
رَقصةُ عاشقٍ
إيقاعُها المشبوبُ
يَصنَعُ يومي
لا تُفْزِعِ الأغنامَ
إنكَ طائشٌ
ما هكذا تُرعَى صِغارُ البَهْمِ
خُذْها بحِلمِ الأنبياءِ لِكيْ تَرى
كيفَ النفوسُ تَقُودُها بالحِلمِ
لا أسبِقُ العصفورَ
كفُّكِ بَيْدَرٌ
وبكلِّ أُنْمُلَةٍ سحابةُ وَسْمِي
صُبِّي وصاياكِ
الفَتَى مُتشوِّفٌ
لحكايةِ البنتِ التي في الكَرْمِ
كنْ فارسًا أَحبِبْ
وعِفَّ
وكنْ لها سيفًا
وكنْ دِرْعًا لبنتِ العَمِّ
الحبُّ
ما ملأَ النفوسَ كرامةً
لا يلتقي شرفُ الغرامِ
بلؤمِ
..
أمِّي ..
وصاياكِ التي هَدْهْدتِهَا
كبِرَتْ مَعِي
والآنَ تَصْنعُ إسْمي
أنا صورةٌ مِن أمنياتِكِ لم أحِدْ
حتى أُزَفَّ على مشارفِ نجمِ
مازالَ حُلمُ فتاكِ يَكْبَرُ
والرُّؤى بنتُ النُّبوءةِ
والنُّبوءةُ قِسمِي
.
.
.
محمد أبو شرارة