في المقال السابق تطرقت إلى فكرة أننا في بعض الأحيان نميل إلى التحصن وراء احتياطات وإجراءات لم يفرضها علينا الواقع؛ مدفوعين بالخوف أو الحذر المفرط، ونرتدي “سترات نجاة” لتقينا من مخاطر قد لا تكون موجودة أصلاً. هذه الحماية الزائدة يمكن أن تعرقل حركتنا وتحدّ من تقدمنا دون أن تكون لها ضرورة فعلية.
وفي هذا السياق، نأتي اليوم لنناقش مفهومًا آخر يتعلق بتلك الأفكار التي تربك الحذرين، والتي قد تكون، في حقيقتها، دليلًا على أنك تسير في الطريق الصحيح. الأفكار الجديدة والمبدعة غالبًا ما تكون غير مريحة لمن يسعى وراء الأمان المطلق أو يخشى المخاطرة. ومع ذلك، فإن هذا الارتباك قد يكون مؤشرًا قويًا على أن ما تحمله من أفكار له القدرة على إحداث تغيير حقيقي. الأفكار التي تدفعك للخروج من منطقة الراحة هي تلك التي تصنع الفرق.
الوصول إلى أفكار عادية ومتوسطة القيمة أمر سهل وبديهي. فهي لا تتطلب الكثير من التفكير العميق أو المخاطرة الذهنية، إذ يمكن لأي شخص أن يتبناها دون عناء. غالبًا ما تكون هذه الأفكار انعكاسًا لما هو مألوف ومعروف، حيث تميل إلى تقديم حلول تقليدية لا تحمل في طياتها تجديدًا أو ابتكارًا. وبينما قد تكون هذه الأفكار كافية في بعض الأحيان لتحقيق الأهداف البسيطة، إلا أنها لا تساهم في إحداث تحول حقيقي أو تقدم ملموس. الأفكار العظيمة والمبتكرة، على عكس ذلك، تتطلب جرأة، تفكيرًا مختلفًا، واستعدادًا لمواجهة المجهول.
عندما يُفكر الجميع بشكل متشابه، فإن هذا يشير إلى غياب التفكير المستقل والإبداعي. فالتفكير الجماعي أو المتطابق عادة ما يؤدي إلى حالة من الجمود الفكري، حيث يميل الأفراد إلى تبني الأفكار السائدة دون التشكيك فيها أو تقديم رؤى جديدة. في هذه الحالة، يكون العقل الجماعي قد توقف عن البحث عن حلول مبتكرة أو النظر إلى الأمور من زوايا مختلفة. الابتكار الحقيقي يأتي من تلك اللحظات التي يجرؤ فيها الفرد على كسر النمط وتحدي الأفكار المألوفة، ليقدم فكرًا جديدًا يغير المعادلة ويخرج عن القوالب التقليدية.
الأفكار الجامحة تملك قدرة فريدة على إرباك الآخرين، وحتى إزعاج صاحبها أحيانًا. فهي تتحدى الواقع المعتاد وتفتح آفاقًا جديدة قد تبدو غير مألوفة أو حتى مستحيلة. ومع ذلك، فإنها تحمل في طياتها طاقة استثنائية، تجعل من يفكر بها يشعر بالحيوية والتجدد، وكأنها تبعث فيه روح المغامرة والاستكشاف.
العالم اليوم يحتاج إلى المزيد من هذه الأفكار الجريئة؛ الأفكار التي لا تخشى الخروج عن النمط السائد ولا تتوقف عند حدود التفكير التقليدي. فالإبداع والتقدم لا يأتيان إلا عندما نسمح لأنفسنا بالتحرر من القيود، ونقبل بمخاطرة أن نكون مختلفين.
الفن في جوهره يحمل رسالة مزدوجة: فهو يجب أن يُريح المضطرب، بأن يمنحه مساحة للتعبير عن مشاعره والتواصل مع معاني أعمق قد تُخفف من توتره أو تعكس تجربته. في نفس الوقت، يجب أن يُزعج المرتاح، بأن يدفعه للتفكير خارج نطاق الراحة والاستقرار، ويجبره على مواجهة أسئلة غير مريحة أو قضايا قد لا يرغب في التعاطي معها.
هذا التوازن هو ما يجعل الفن قوة تحررية وتغييراً اجتماعياً. الفن ليس مجرد تجميل للواقع أو تهرب من المشاعر، بل هو مرآة تكشف الحقيقة، تصدم وتثير، لكنها أيضاً تحتضن وتعالج. إنه بذلك يُحدث تغييرًا حقيقيًا، سواء في قلوب الأفراد أو في ملامح المجتمعات.
السؤال هنا: هل ستنجح جميع أفكارك؟ بالتأكيد لا. فالطريق إلى النجاح مليء بالتجارب والأخطاء، وفشل بعض الأفكار أمر طبيعي وجزء من عملية النمو. ولكن إذا توقفت عن المحاولة، فإنك تُغلق الباب أمام الفرص العظيمة التي قد تنتظرك. النجاح الحقيقي لا يأتي من المحاولة الأولى، بل من الإصرار على التجربة والتعلم من الأخطاء.
إذا لم تَبدُ الفكرة سخيفة في بدايتها، فقد تكون تقليدية أو مألوفة للغاية بحيث لا تُحدث فرقًا. الأفكار العظيمة غالبًا ما تُقابل في البداية بالشك أو الرفض، لأن الابتكار يُزعزع استقرار التصورات المألوفة. لذلك، لا تخشَ التفكير بطريقة غير اعتيادية أو تبني أفكار تبدو سخيفة، فهي قد تحمل في طياتها بذور النجاح الذي لا يتوقعه أحد.
تجنب المجازفة لن يوصلك إلى أي مكان، بل سيبقيك في دائرة الأمان التي لا تسمح لك بالنمو أو التقدم. الأفكار التقليدية، مهما كانت آمنة، لن تصنع لك مسارًا مختلفًا أو نجاحًا باهرًا. لذلك، فكر بجنون، فكر بغباء إن لزم الأمر، والأهم من ذلك، فكر بطريقتك الخاصة. لا تدع العقول المملة والمتحفظة تُثبط من عزيمتك أو تُضعف من إبداعك. الإبداع هو ما يُميزك ويمنحك القوة لتجاوز الحدود، فكن شجاعًا في تبني أفكارك، حتى لو كانت تبدو غير مألوفة أو غير منطقية للآخرين.
استمر، فإن أفكارك سوف تنبض بالحياة يوماً ما، وهذا سيفتح الباب لمزيد من الإبداع والابتكار. عندما تتمسك برؤيتك وتواصل العمل عليها، فإنك تزرع البذور التي ستثمر في المستقبل، حتى وإن بدت في البداية بعيدة عن التحقق.
المرء لا يُمنح سوى شرارة صغيرة من الجنون، وهذه الشرارة هي ما يُحفز الإبداع ويحثك على التفكير خارج الصندوق. لا ينبغي لك أن تفقد هذه الشرارة، بل يجب أن تُغذيها وترعاها. فالإبداع يتطلب الجرأة والإصرار، وعندما تُشعل شغفك، ستكتشف إمكانيات جديدة لم تكن لتخطر على بالك من قبل.
بقلم الكاتب/ عبدالله بن مسفر الشمراني _ منطقة الرياض