صباحٌ جميل في قرية تحتضنها إحدى أودية تهامة ، الشمس ساطعه تملأ المكان تتسلل خيوطها في كل الأرجاء تسمع صفير الرعاة وأصوات السواني والعجل على الأبيار وهذاء الغنم ونواح البقر.
حناجر تغني وأخرى ترزف بالطرق الجبلي
يتخلل كل هذا صرخات مدوية في أرجاء الوادي (ياااااااااا محمد : الله لا يردك , رد الغنم لا تقع في زرع فلان والله ان يداعينا )
انها حياة مليئة بالتعب ، لكنها تفيض بالبساطة والود ، حتى وان اختلفوا مع بعضهم فسرعان ما يصتلحوا .
يمر يومهم بهذا الروتين من التعب والكد إلى أن قاربت الشمس كبد السماء ، عندما بدأت تتزين السماء بالسحاب الذي سرعان ما يكون غيوم ملبدة , يلي ذلك بسرعة وميض برق ودوي رعد إيذاناً بسقوط المطر.
صرخات الشيبان تتعالى في الأودية وبجنبات الوادي (يااااااااا الله يا كريم لاتحرمنا خير ما عندك ) ينادي جارنا على ولده (يا احمد أفزع غط امصرام لا يغرق في امجرين ، وآخر يصيح يَا محمد روّح امغنم لا تعزب في امجبل تأكلها امسباع … لحظات فقط والسماء تنهمر بالمياه وبدأ البـرَدْ يضرب الأرض وتأخذ منه رؤوس الناس نصيبها ، وهنا يعدوا الصغار ليجمعوا منه ما يستطيعون وسط صيحات الشيبان بطردهم وأمرهم بالدخول للبيوت خوفاً عليهم من البرق ، مع حرصهم على وضع أحد الفؤوس أو المساحي على باب البيت بداعي انه يمنع الصواعق والبرق ويطرد الشياطين . سالت السيول وامتلأت الأودية ، هرول الكبار والشباب للأودية فرحين بقدوم هذا الضيف الغالي على الجميع ، والنساء يراقبن من على اسقف المنازل والشرفات .
حركة سريعة وحالة استنفار في أرجاء القرية لحظات ويهدأ كل شيء كان مطر رحمه ، شارفت الشمس على المغيب إلا انها ظهرت مرة أخرى قبيل مغيبها بقليل بنفس سطوعها في الصباح تاركة لوحة جميلة كأروع منظر يخطر ببالك إنكسارات ضوء الشمس على بقايا قطرات المطر فوق أوراق الشجر والصخور توحي بأن الأرض مرصعة بالألماس واللؤلؤ.
رائحة القرية كأروع عطر باريسي ,, رائحة الغنم رائحة الادخنة المتصاعدة من البيوت ,, ورائحة العلف المبلل بالماء ,, ناهيك عن رائحة الدمن – اكرمكم الله – المبلل بالماء والذي يشعرك بأنك تتنفس من كل أعماقك (رائحة تضاهي عطر ديور وجفنشي).
وتلحظ في الأفق أشعة الشمس وقد رسمت ألوانها – قوس لقمان – كما يسمونه الأهالي .
الشيبان متحزمين بعضهم بالجنابى والبعض بالحبال والخوص ، ومحتزمين قبلها بالتقوى والتوكل على الله أصواتهم تملأ المكان بالأمان (ياااالله ياكريم لك الحمد مطره هنيه) وجوههم مليئة بالوقار ، ورؤسهم تفيض بالشيمة ، تأمن الديره وهم في طرفها.
أذن المغرب وتولفوا الجماعة كلهم للصلاة تلاوات مكسرة وإيمان صادق وخفايا بيضاء.
بعد الصلاة تعازموا على القهوة واعتذر كل واحد من الآخر بقوله (والله أني ما اثنيتها من الصبح دخيلك أعذرني خلني أغدي أتمدد عند كهلتي).
عادوا لصلاة العشاء وتداولوا أطراف الحديث وبعض النكت التي يستمعون لها من ابو ريسه – رحمه الله – ومعها تعلوا الضحكات .
بعدها ذهبوا لبيوتهم ليتناولوا وجبة العشاء خبزه وسمن ، وبعضهم حصل لحسة عيشن على شوية رواكه ، وقليل من أهل القرية من يحصّل عصيدة ومرقة ديك بلدي .
ثم كلن توسد أيده فلا يبعثر ذلك الهدوء سوى بلبلة التيوس ونباح الكلاب ، الا انها تعطي راحة لا يستشعرها الا من عاش في تلك الأيام والتي مضى عليها أكثر من (٤٠) سنه ماعدا ذلك فالهدوء مخيّم على تلك القرية الصغيرة والكل في سبات عميق يحلم بيوماً جديد يتخلله عمل مضني بلا سيارات ولا مكيفات ولا ثلاجات ، ولكنهم مع ذلك يستقبلون يومهم بنفوساً رضية هنيه بما قسم لهم الرب سبحانه .
هكذا كانت قريتي .
ابدعت اخوي يوسف في الوصف تمنياتي لك بالتوفيق ياغالي