مما راق لي مع التحيه:
الأستاذ/ صالح خلف الشمراني
*غربة الحنين إلى أعماق القرية *
(١٣٨٠-١٣٩٥ )
كانت الناس في ثمانينات القرن الهجري الماضي – خاصة في معظم قرى السعودية -تدور في محيط قبائلها ، تحرث مزارعها ، وتبني ديارها، يسكن الولد -إذا تزوج -مع والده … ويعيش الجميع بمفهوم الأسرة الواحدة …. وهكذا
عاش الناس ردحاً من الزمن
ثم ماذا …. ثم فتحت المدينة ذراعيها لأهل القرى ، تغريهم
بالوظائف ، ورغد العيش ؛ فذهب من كل قبيلة ثُلَّة لتحسين الوضع سنتين أو ثلاث ، ثم العودة والاستقرار في مسقط الرأس، ولكن القادم من المدينة كان يعود لقبيلته وقريته بهيَُّّ الطلعة ، جميل الملبس ، لديه المال والسلاح …. فتحيي القبيلة والقرية لاستقباله الأفراح ، والليالي الملاح ، وما درت أنها بهذا الاحتفاء تبذر حب الرحلة في قلوب الجيل الصاعد ، وتقطع من لحم ذراعيها لتطعم المدينة بأغلى مقوماتها وعدتها … “فلذات أكبادها” …
لكِ اللهُ أيتها القبيلة والقرية ، كم كنت كريمة وأصيلة … تغذين المدينة بقمحك ودُخْنك وبُنِّك … تمدينها بالسمن والسمين ، وبالجِلد المدبوغ والمرَس المربوع … ولكنك بالغتي في الكرم ؛ فمددتِ المدينة بالسواعد السمراء المفتولة ، التي كانت تحرث وتقلع وتقطف البن وتزرع ، وتحطب وتسرح ، وتذرِّي وتمرح ، وتحفر وتنثل وتبني وتكْحل ..
عندها أيتها القرية والقبيلة فقدتِ أعظم مقوماتك …
فهل ياترى ستستعيدين من المدينة ما أخذت منك ، وهل تعودين لعصرك الذهبي ، متوشحة بزينة العلم وقوة المال وصلابة الرجال ؟!
هل ستعودين بمزارع منتجة وأجيال متوثبة ، وقلوب صافية نقيه ،
كلما تأملت التجاذبات بين المكانين والمكونين الاجتماعيين يتوهج الحنين وتنثال عليَّ أسئلةٌ شتّى تقول :
أين القرية التي كانت تستيقظ مع الفجر ولها دوي كدوي النحل ؟
أين القرية التي كانت تتمتع باكتفائها الذاتي ؛ فتأكل من حَبٍ بذرته ، ثم حصدته ، سمنها من حلال مراعيها
لا من شركة المراعي ، والعسل من مناحل نحّالة محليين ، وجرّامة أصليين .
أين القرية التي تستقي ماءها في قربة من صنع نسائها ، وتحرث أرضها بمحراث قُطع من سدرة قريبة أو سيالةٍ مجاورة لها ثم صُنع محلياً وبأيدي أبنائها .
أين القرية التي تخرج سوارحها ضحىً كأنها قِطعٌ من نوِّ الخريف تتمازج أصواتها ببدوع رعاتها لتؤلف أعذب أغنية بين القرية ومراعيها ؟
أين القرية التي تسمع للعَمَّالة فيها أصواتاً وزملات ، فهذا يقترع ضمدَه ويفدّي ، وذا يدمس ليجلّب ، وثالث يوسّد ويبدّع .. وربة دار تلحقهم في الغدوة بزنبيل تتطاول مع جوانبه قرصان البر وتتمايل ، وبراد الشاي المحجل بالسواد يوحي بجلسة استراحة لا أروع ولا أهنأ منها ، نشم فيها رائحة الطين المحروث في بساطة وتآلف لا تجد لهما مثيلا .
أيتها القرية أين صلاة العيد التي كانت لها فرحة تطرد النوم من ليلته ؟!
أين التزاور يوم العيد والمرور على كل بيت ، وأين طلائل البرك والشيح والريحان التي كانت تزين رؤوس الشيبان وجيوب الشباب .
أين مهرجان العرضة الخفيفة بعده ابتهاجاً بالانجاز وادخالاً للسرور في كل مكان لقد كانت القرية تغنَّي رغم التعب والإجهاد ، إنها تصنع الفرح رغم قسوة الحياة .
أين المناصع البعيدة التي يتبارى فرسان الرماية في كسرها في إشارة على الاستعداد للحرب وكسر العدو ؟
أين لقيمات من الظهرة والورك من لحم التقطيعة التي يظفر بها كل من يوشي و ينزع ويقطِّع ؟
أين الطفاه ، أين النُّصده ، أين الصحفة ، أين أقداح المرق التي كُنَّا نتسلّى بها في ” الجرين” بعدما نُدْني الضيوف ؟
أين أكرمْ يا مضيفنا ، وأكرم الله ضيفاننا وجماعتنا
.. واخلف الله عليك .
ياسقى الله تلك الأيام على ما فيها من صعوبات ومشقة ، فلها في القلب حنين ، وتذكارها ينتزع من الصدر الأنين .. المنبيء عن حب دفين .
سلامٌ عليك أيتها القرية والقبيلة ، وتحية أبعثها – ا رغم غُربة هذا الزمن – ، وفاءً لك ، مسلِّماً عليك ، وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي.