حينما اتحدثُ عن قريةِ القعرة الصغيرةِ بحجمها الكبيرةِ بشئونها وشجونها فإنما اتحدثُّ عن معالمَ وذكرياتٍ وثقافةٍ وأدبٍ وتاريخ
لم يكن يخطر في بالي وانا ذلك الطفل المثقلُ بهموم الطفولة ان حظّيَ سبجعلُني احدَ ابطالِ مشاهدها رغم عدم انتمائي لها
احببتها منذ وجدت ( مساحاتِها ) تغمر طفولتي وتلك الممرات الصغيرة التي كانت رغم صغرها تتسع لكل العابرين ، وكانت سببا في تقارب المشاعر ووضوح الاهداف النبيلة حينما لم يكن هنالك حواجزَ الا المروءةَ والشهامةَ وسموَّ المقاصد ، فكان من ثمراتِ حبي لهذه القريةِ الباسقة ِ البهاء هو ذلك الوفاء الذي امتزج بمشاعري من تياراتِ تلك القرية العطرة
القعرةُ التي انجبت الابطال
اولئك الرجال الأفذاذ الذين سطروا اروع وانصع صفحاتِ المجد والسؤدد صفحاتِ القيم ِ الرفيعة ِ والمعالمِ النبيلة
انها قرية الصمود كما قال الشاعر ( ما ندر من دارنا في امقعرة تركٍ ولا عجم )
حينما اتذكر القعرة فإنني اشم عبق التاريخ ، مجدَها مكانتَها ، بهاءَها ، صفاءَها ، نقاءَها
لا اعلم سببا معينا جعلني اعشق قرية القعرة سوى طيبةِ اهلهاِ وبراءتِهم ونقاءِ سريرتِهم ، فهم على سجيّتهم لا تصنّع ولا تكلّف ، ان أحببتَهم فلا اطيب َ منهم وان عاديتَهم فليس اشرس ولا اعتى منهم .
كم انا محظوظا ً أنهم اخوالي
فهم اهل الشهامة والمروءة والكرم والشجاعة والطيبة
دعوني آخذكم معي في جولة صباحية في يوم العيد بهذه القرية التي امتلأت جوانحُها عطرا وريحانا وبركا وبخورا في كل ارجائها وكلُّ عائلةٍ قد اعدت مآدبتَها التقليدية التي يفوح كرمها استقبالا للمهنيئن بالعيد والبشر يملأ الارجاء والغبطة تعتلي الوجوه والترحاب صداحا والعطر فواحا فلا يكاد يخلو بيت من المهنيئن والزائرين وبعد صلاة العصر يجتمع الرجال في انس وسرور يؤدون العرضة الشعبية في ( يرين حبشان ) المشهور وهم مدججون بسلاحهم مغمورون بمشاعرهم وشاعريتهم فمنهم من يصدح بالشعر صافيا رقراقا كصفاء المزن وكأني انظر الى حمود بن حسن رحمه الله وهو يقول
ما اوطّيك يالبندق
تحرزك ايد بو ليلى
كان ذلك بعد ما كبر سنّه وقال له احد الاشخاص ، كان وطّ البندق ياحمود فكان ذلك ردّه عليه
ومن هم من يؤدي العرضة بحماس وشجاعة ومنهم من يطلق النار ببندقيته فينعتقُ من العرضة مجموعةُ اشخاص مابين اثنين الى اربعةٍ ببنادقهم على نفس ايقاع العرضة حتى يستقبلون جبل الصعبة ثم يطلقون الرصاص جهة الجبل بإسلوب منظم ومتقن ثم يعودون الى العرضة بنفس الايقاع والسعادة تعتليهم ويعودون لممارسة العرضة مع جماعتهم
وكأني انظر الى والدي الفارع الطول رحمه الله الذي كان هو الاخر مدججا بالسلاح مابين بندقيةٍ في يده ومسدس ٍ كبيرٍ في جنبه متوشحا بمحزم للرصاص كأني اراه في عصر يوم العيد نازلا من قريته النجاجير ماشيا على قدميه يعلوه البشر وتختلجه السعادة متوجها الى قرية القعرة التي وجد فيها انسه وناسه أحبهم واحبوه وقدّرهم وقدّروه كأني اراه في مقدمة صفوف العرضة يعرض تارة وينشد الاشعار تارة ويرمي ببندقيته تارة ويمازح الاخرين تارة ،
اما النساء فكنّ يعتلين اسطح المنازل لمشاهدة ابائهن واخوانهن وازواجهن وهم يؤدون هذا الاحتفال البهيج .
اما محدثكم فكان ينظر الى هذه الجماليات متأملا متجليا يحلم بأن يكون له مكانا بين هولاء ولكن السيف سبق العذل ، غزتنا الحضارة من اوسع ابوابها فلم يعد لتلك المباهج وجود الا ما ندر ؛

على مفرق الوقت خارت قواه
‏تهدًَم في القلب ماقد بناه
‏هنا قبّل الفجر خد الاقاحي
‏هنا أعشبت دون ماء رؤاه
‏هنا هاج في قلب ليلى
‏ الغبار
‏وغادر سرب الحمام
‏الديار
‏ وهدّم جدران قلبي
‏الفراق
‏ وشدد شوق اللقاء
‏ الخناق
‏هنا حادي العيس جر ّالرحيل
‏فساروا على حسرة في خطاه.