الشريعة الإسلامية دين شامل يوازن بين العدالة والرحمة، ويقدم رؤية متكاملة للتعامل مع الإساءة والاعتداء. يعكس التشريع الإسلامي في هذا الصدد واقعية عميقة وحكمة بالغة، تجمع بين حماية الحقوق وتشجيع التسامح.
ومن العدالة في الإسلام؛ مقابلة السيئة بمثلها ومن الأسس الرئيسية في الإسلام هو مبدأ العدالة، والذي يتجلى بوضوح في تشريع مقابلة السيئة بمثلها. يقول الله تعالى: “وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ”.
هذا التشريع يضمن أن يكون الرد على الأذى مقيدًا بمقدار الأذى الواقع، مما يمنع تجاوز حدود العدالة ويفرض قيودًا صارمة على الانتقام الشخصي.
وفي سياق توجيه المسلمين نحو ضبط النفس والاعتدال في الرد على الأذى، تأتي الآية الكريمة: “لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا”.
هذه الآية تؤكد على مبدأ عدم الجهر بالسوء إلا في حالة الظلم، مما يعني أن الإسلام يدعو إلى ضبط النفس والتروي ومع ذلك، يعطي المتضرر الحق في التعبير عن مظلمته، من مبدأ العدل والإنصاف. هذا التوجيه يعزز فكرة التوازن بين حماية حقوق المظلوم ومنع تجاوزها إلى حد الانتقام غير المبرر.
ورغم التأكيد على مبدأ العدل، يحث الإسلام على العفو والمغفرة، معتبراً إياها من مكارم الأخلاق التي يجب أن يتطلع إليها المسلمون. يقول الله تعالى: “وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى”. ويقول أيضًا: “فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ”.
هذه الدعوة إلى العفو تأتي في إطار تعزيز القيم الإنسانية الرفيعة، وتشجيع الناس على تجاوز الأحقاد والتسامح، لكن دون فرضه كواجب إلزامي.
في التوازن بين العدل والرحمة يشجع الإسلام على العفو والمغفرة مع عدم إلزاميتهما يُظهر توازناً فريداً بين العدل والرحمة. فالعدل يحمي الحقوق ويمنع الظلم، بينما الرحمة تفتح أبواب التسامح وتعمق الروابط الإنسانية. وهذا التوازن يعكس فهمًا عميقًا للطبيعة البشرية واحتياجات المجتمع.
يمكننا رؤية تطبيق هذه المبادئ في السيرة النبوية وحياة الصحابة. فعندما فتح النبي محمد ﷺ مكة، منح عفوه لأهلها رغم ما تعرض له وأصحابه من أذى واضطهاد، قائلاً: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، هذا الموقف يعكس أعلى درجات التسامح ويضع نموذجًا يُحتذى به في التعامل مع الأعداء والمسيئين.
وتكمن أهمية هذه القيم في العصر الحديث وفي عالمنا اليوم، حيث تنتشر النزاعات والصراعات، وتصبح قيم العدل والمغفرة أكثر أهمية من أي وقت مضى. فالتشريع الإسلامي يقدم حلولاً واقعية يمكن أن تسهم في بناء مجتمعات أكثر عدلاً وتسامحًا. فهم هذه القيم وتطبيقها يمكن أن يساعد في معالجة الكثير من التحديات التي تواجهها الإنسانية اليوم.
الإسلام، بتشريعاته التي توازن بين العدل والمغفرة، يقدم نموذجًا حضاريًا للتعامل مع الإساءة والأذى. هذا النموذج لا يحمي الحقوق فحسب، بل يعزز أيضًا الروابط الإنسانية ويشجع على التسامح والتراحم. ومن خلال هذا التوازن الفريد، يثبت الإسلام واقعيته وحكمته في بناء مجتمع أكثر عدلاً وسلاماً.
بقم الكاتب/ عبدالله بن مسفر الشمراني _ الريــاض