تُعدّ القوة واحدة من القيم الأساسية التي يسعى الإنسان لتحقيقها أو فهمها، سواء كانت قوة جسدية، عقلية، أو تأثيرًا معنويًا على الآخرين. عبر التاريخ، تنوعت مفاهيم القوة وتفاوتت حسب السياق والثقافة. ومع ذلك، هناك جانبٌ خفي في مفهوم القوة، يكمن في كونه أحيانًا وهمًا أو انعكاسًا غير ملموس، يشبه “الظل” الذي يظهر كبيرًا على الجدران بينما قد يكون الأصل صغيرًا جدًا.
قد تكون القوة بمثابة ظلٍ على الجدار، وهمٌ يعكس وجودًا أو تأثيراً، دون أن يكون هناك حقيقة ملموسة خلف هذا الظل. حينما نرى ظلاً كبيراً، نتوقع أن صاحبه ضخم أو عظيم، ولكن عندما نقترب ونتفحص، نجده قزماً، ونكتشف أن ما ظنناه “قوة عظيمة” هو في الواقع مجرد وهم. هذا المفهوم ينطبق على بعض الأشخاص أو الأفكار التي تبدو قوية في الظاهر، ولكنها في جوهرها قد تكون ضعيفة وغير مؤثرة.
تتشكل هذه القوة الوهمية من التوقعات والإدراكات المحيطة بالفرد، حيث أن القوة، في بعض الأحيان، تعتمد بشكل كبير على الإيمان بوجودها. عندما يؤمن الناس بقوة شخص أو فكرة معينة، يصبح لها تأثير حقيقي، ويبدأ هذا الظل الوهمي في التأثير بشكل فعلي، رغم عدم وجود أساس مادي له.
يأتي هنا مفهوم أن شخصًا صغيرًا جدًا يمكنه أن يُلقي ظلًا كبيرًا للغاية، وهذا يشير إلى أن التأثير لا يعتمد على حجم الشخص أو مكانته الاجتماعية، بل على قدرته على التأثير والإلهام. فهناك أشخاص يملكون شجاعة وإيمانًا راسخًا بأفكارهم، تجعلهم قادرين على ترك أثرٍ عميق في حياة الآخرين، رغم بساطة مظهرهم أو تواضع ظروفهم.
تاريخيًا، رأينا نماذج لشخصيات صغيرة أو بسيطة في الحياة، ولكنها استطاعت أن تؤثر في مجتمعات بأكملها، وأن تُحدث تغييرات جذرية. يعود ذلك إلى امتلاك هؤلاء الأشخاص صفات داخلية، كالصدق والإرادة والالتزام، تجعل الآخرين ينظرون إليهم بإعجاب ويؤمنون بقدرتهم على تحقيق المستحيل.
من المهم أن نفهم أن القوة، بمعناها الحقيقي، لا تقتصر فقط على النفوذ والسيطرة الملموسة. إنما تتجلى أيضًا في القدرة على التأثير في العقول والمشاعر. لذلك، فالقوة قد تكون في الحقيقة وهمًا لدى البعض، ولكنها تتحول إلى واقع حينما يستمدها شخصٌ مؤمنٌ بنفسه وبأهدافه.
وهنا، يتضح أن الفرق بين القوة الحقيقية والوهمية يكمن في المصدر. فالقوة الحقيقية تنبع من الداخل، من ثقة الشخص بقدراته وإيمانه بما يفعل، بينما القوة الوهمية قد تكون مجرد تهيؤات أو مظاهر لا تدوم. القوة الحقيقية تكون ثابتة، ولا تحتاج إلى تضخيم أو ادعاء، بينما القوة الوهمية لا تصمد أمام الحقائق.
يبقى مفهوم “القوة” حاضرًا كأحد العناصر الأساسية التي تؤثر في حياة البشر. ومع ذلك، فإن القوة ليست دائمًا ملموسة، بل قد تكون مجرد فكرة، تتحقق فقط حينما يؤمن الناس بوجودها. يُقال إن “القوة تكمن حيثما آمن الناس بوجودها”، وهذه العبارة تحمل في طياتها فهمًا عميقًا لطبيعة القوة وكيفية تأثيرها في حياة الأفراد والمجتمعات.
يتضح من ذلك أن القوة ليست مجرد قدرة جسدية أو سيطرة فعلية، بل قد تكون فكرة أو شعورًا يتغذى على الإيمان به. عندما يؤمن الناس بشيء ما – سواء كان شخصًا، فكرة، أو حتى نظامًا اجتماعيًا – فإن هذا الإيمان يمنح ذلك الشيء القوة والتأثير. فمثلًا، قد لا تكون هناك قوة حقيقية لحاكم أو قائد إلا حينما يثق به الناس ويؤمنون بقدراته. وبالتالي، يصير الإيمان هنا بمثابة الوقود الذي يجعل هذه القوة تنبض بالحياة وتؤثر.
ولكن ماذا يحدث عندما تكون هذه القوة قائمة على الوهم؟ إذا كانت القوة تنبع من إيمان الناس بها فقط دون أن تكون هناك حقيقة تدعمها، فإنها تصبح في جوهرها وهمًا، وسرعان ما تتلاشى إذا اهتزت هذه الثقة. فالقادة الذين يبنون تأثيرهم على مظاهر زائفة أو وعود كاذبة، قد يبدون أقوياء في البداية، لكنهم يفقدون قوتهم فور انكشاف الحقيقة أمام الناس. وهنا تظهر خطورة الإيمان بالقوة الوهمية؛ لأنها تُبنى على أسس غير ثابتة وسرعان ما تنهار أمام الواقع.
على الجانب الآخر، عندما تكون القوة مبنية على قدرات حقيقية وأفعال ملموسة، فإن إيمان الناس بها يزيدها قوة وثباتًا. فالعلماء، مثلًا، يكتسبون قوتهم من اكتشافاتهم وإنجازاتهم التي يستفيد منها المجتمع، ويؤمن بها الناس لكونها تساهم في تحسين حياتهم. في هذه الحالة، يصبح الإيمان بتلك القوة انعكاسًا لحقيقتها. فالقوة الحقيقية لا تتطلب المظاهر الزائفة، بل تستند إلى الأفعال التي تعزز الثقة والإيمان بها.
عندما يجتمع الناس على الإيمان بفكرة أو مشروع، فإنهم يمنحونه قوة هائلة تزداد بازدياد عدد الذين يؤمنون به. هذا التجمع حول فكرة مشتركة يحولها إلى قوة جماعية ذات تأثير عميق. في كثير من الأحيان، تكون الحركات الاجتماعية أو الثورات بمثابة مثال حي على كيفية أن الإيمان الجماعي يستطيع تحويل فكرة بسيطة إلى قوة جبارة قادرة على تغيير مسار التاريخ.
في النهاية، يظهر لنا أن القوة لا تنبع دائمًا من الأشياء الملموسة، بل قد تنشأ من إيمان الناس بوجودها. فحينما يؤمن الناس بشيء ما، يمنحونه القوة اللازمة ليصبح مؤثرًا، سواء كان ذلك الإيمان مستندًا إلى واقع ملموس أو مجرد وهم. يبقى السر في أن نفهم أن القوة الحقيقة تحتاج إلى أساس حقيقي وداعم، وإلا أصبحت مجرد ظلٍ سرعان ما يختفي عندما تتبدد ثقة الناس به.
بقلم الكاتب/ عبدالله بن مسفر الشمراني _ الرياض