هل شعرت يوماً أنك جوجل صغير يتحرك بين الناس أو أنك موسوعة متنقلة تجمع المعلومات بلا توقف؟ إذا كان جوابك نعم، فمرحبًا بك في نادي “المكدِّسين المعرفيين” الذين يجمعون من المعرفة ما يكفي لتأسيس مكتبة ولكن يتركونها على الرفوف الافتراضية. نعم، إنه ذلك الطبع الجميل في الإنسان الذي يجعله يتحمس لجمع كل معلومة مفيدة كانت أو غريبة، وفي النهاية، يتحول الأمر إلى تكديس معلوماتي.
تخيل أنك تُكدس كل مقال وكل مقطع فيديو تعليمي وكل كتاب وكل حكمة تصادفك معتقداً أنك يوماً ما ستستعين بها، ولكنك في الواقع لا تستخدم شيئًا منها. يُشبه الأمر امتلاك مجموعة كبيرة من المعدات الرياضية وأنت لا تمارس الرياضة، أو جمع توابل العالم دون أن تطبخ وجبة واحدة. هذا هو ما استطيع أن اسميه “التكديس المعرفي”، حيث يُصبح المرء كالمكتبة لكنه نادراً ما يفتح كتبه.
حدث لي هذا الموقف مرات لا حصر لها؛ أجد نفسي أمام كتب جديدة بمواضيع شيقة ومؤلفين راقوا لي بإعجاب عابر، فتسري فيّ حماسة للشراء وكأنني سأقرأها كلها فوراً. أنظر إلى الغلاف، أُقلّب الصفحات، أتخيل نفسي مستمتعاً بمحتواها من اللحظة الأولى، فأشتري الكتاب وأضيفه إلى المكتبة. ثم، بعد أيام وربما ساعات، أجد نفسي قد نسيت الكتاب في ركنه، لأن غيره قد أثار اهتمامي. مررت بذلك عدة مرات، حتى أدركت أنني قد بدأت بتكديس مكتبة صغيرة دون أن أقرأ منها إلا القليل، فقررت التوقف عن الشراء، أو الاكتفاء بالنادر منها فقط، لحين قراءة الموجود أو إهدائه لمن قد يستفيد منه.
ربما لأننا نحب أن نشعر بالذكاء. من الممتع أن يكون لديك الرد السريع والمعلومة المثيرة، حتى إن لم يسألك أحد. إن جمع المعلومات يمنحنا شعورًا بالسيطرة أو الأمان؛ إذ نعتقد أننا مستعدون لمواجهة كل نقاش وكل موقف بحكمة مُكدسة. كما أن التكنولوجيا الحديثة جعلت المعلومات متاحة بضغطة زر، فما المانع إذًا من جمعها مثلما يجمع الطفل الحلوى؟ لكن السؤال المهم هو: هل نحن فعلًا بحاجة لكل هذه “الحلوى” المعرفية؟
هنا يظهر جانب غير طريف، وهو “التخمة المعرفية”. فكثرة المعلومات قد تصبح عبئًا، حيث تجد نفسك غارقاً بين العناوين والأفكار، مشتتاً بين مصادر متعددة، لا تعرف من أين تبدأ ولا متى تنتهي. مثل ذلك الصديق الذي يمتلك عشرات التطبيقات الرياضية لكنه لا يذهب إلى النادي أبداً. المشكلة ليست في المعرفة بحد ذاتها، بل في طريقة التعامل معها. إذ حينما تتكدس المعلومات بلا هدف واضح، تصبح كالثياب المخزنة في الخزانة ولا تُستخدم، فقط تتراكم إلى أن تنسى ما الذي تحتفظ به في الأصل.
هنا يكمن الحل: أن نستخدم المعرفة، لا أن نخزنها فقط. مثلما أن الأموال تصبح ذات قيمة عندما ننفقها، المعرفة تكتسب قيمتها عندما تُستخدم وتُوظف. أجرِ لنفسك تحدياً طريفاً؛ مثل محاولة ربط كل معلومة جديدة تتعلمها بحياتك اليومية، أو شاركها مع أصدقائك في جلسات السمر. ستندهش من مدى طرافة بعض المعلومات “غير المفيدة” حين تصبح محط نقاش مع الآخرين.
بدلاً من قراءة مئة مقال في اليوم، حاول أن تختار عدداً قليلاً من الموضوعات التي تشعر أنها تناسبك وتضيف لقيمتك. ما فائدة حفظك لحقائق عن حياة الطيور النادرة إذا كنت لا تستمتع بمشاهدة الطيور؟ وبدلاً من الاحتفاظ بالمعلومات في مخزن ذاكرتك، حاول أن تُطبق منها شيئًا. تعلمت كيف تبدأ حديقة منزلية؟ قم بزراعة بعض الأعشاب. قرأت عن مهارة التفاوض؟ جرّبها في موقف بسيط. هكذا تصبح المعلومات أداة للتطوير وليس مجرد حشو في العقل.
التكديس المعرفي يشبه تماماً تجميع الأطباق الشهية على المائدة دون تناول أي منها. ما قيمة الأطباق إذا لم تتذوقها؟ وما فائدة المعلومات إذا لم تُستخدم؟ دعونا نتذكر أن القيمة الحقيقية للمعرفة ليست في جمعها، بل في توظيفها، ونصيحة من القلب: لا تجعل دماغك مكتبة دون أبواب مفتوحة، بل اجعل منه مصنعًا للإبداع والحكمة.
بقلم الكاتب/ عبدالله بن مسفر الشمراني _ الرياض