الأمم تمر بمراحل متعددة في مسيرتها نحو الرقي، وكل مرحلة تحمل معاييرها الخاصة التي تحدد تفوقها وتميزها. في هذا السياق، يقدم ابن خلدون في كتابه “المقدمة” رؤية فلسفية عميقة تلخص هذا التطور بقوله: “الأمم البدائية تتفاضل فيما بينها بالقوة، فإذا ارتقت تفاضلت بالعلم، فإذا بلغت النهاية في الرقي تفاضلت بالأخلاق.”
في المراحل الأولى من نشوء الحضارات، حيث يسود الصراع من أجل البقاء، تكون القوة هي المعيار الأهم للتفاضل. المجتمعات في هذه المراحل تعتمد على قدرتها على الدفاع عن نفسها، تأمين الموارد، وبسط نفوذها. هذا المفهوم يمكن ملاحظته عبر التاريخ في ظهور الإمبراطوريات الأولى التي اعتمدت على الجيوش القوية والفتوحات كوسيلة لتحقيق الهيمنة.
مع استقرار المجتمعات وتطورها، يبدأ العلم في أخذ مكانة القوة. تصبح المعرفة والابتكار الأدوات الرئيسية لتحقيق التقدم. التاريخ الإسلامي في العصر الذهبي يشهد على هذا التحول، حيث قاد العلماء المسلمون نهضة علمية امتدت إلى مجالات الطب، الفلك، الرياضيات، والفلسفة، مما جعل الحضارة الإسلامية نموذجًا يُحتذى به.
عندما تصل الأمم إلى ذروة تطورها المادي والعلمي، يُصبح معيار التفاضل الأخلاقي هو الأساس. الأخلاق هي الضامن لاستمرار الحضارات، لأنها تمثل القيم التي تحفظ العدالة، التسامح، والتعايش بين الشعوب. الأمم التي تفتقر إلى الأخلاق قد تنهار حتى لو بلغت أقصى درجات القوة أو العلم، كما حدث مع العديد من الحضارات التي دمرها الظلم والفساد.
مقولة ابن خلدون ليست مجرد تحليل لتاريخ الماضي، بل هي درس للمستقبل. في عالمنا اليوم، نرى دولًا تفوقت بالقوة ثم بالعلم، لكنها تواجه تحديات أخلاقية تهدد استقرارها. على سبيل المثال، القضايا المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، حقوق الإنسان، والحفاظ على البيئة تُبرز أهمية الأخلاق كأساس للتفوق الحضاري.
تظهر مقولة ابن خلدون أن الأمم تمر بمراحل متتالية من التفاضل: من القوة إلى العلم، ثم إلى الأخلاق. القوة تمنح البداية، والعلم يحقق الرقي، لكن الأخلاق هي ما يضمن الاستدامة. علينا كأفراد ومجتمعات أن ندرك أن بناء مستقبل مستدام يعتمد على إعلاء القيم الأخلاقية كركيزة أساسية لحضارتنا. فكما أشار ابن خلدون، الأخلاق ليست غاية فحسب، بل هي معيار التفاضل النهائي بين الأمم.
بقلم الكاتب/ عبدالله بن مسفر الشمراني _ الرياض